لأننا نعيش في هذا الوقت عيشتين، عيشة في الواقع المعاش، وعيشة في الواقع المتخيل، لذا بدأت تظهر الأشياء وظلالها أو الفكرة وأمثالها أو الأمر ورديفه، تجدنا نعيش ظاهرة ما في الحياة، ونعيش مثلها في الواقع الافتراضي أو الإلكتروني، من هنا ظهرت حالة التنمر الرقمي «Cyber bullying»، بعد أن مرت على الكثيرين منا في حياتنا، صغاراً أو كباراً، حالات التنمر الفعلي، في الحياة العادية المتنمر حاضر أمامك، وتعرفه، ويمكن أن يكون زميلاً في المدرسة أو العمل، أما في حالة التنمر الرقمي، فالمتنمر غير مرئي أو متلون أو في شكل مموه، بحيث لا تراه بقدر ما ترى أفعاله تجاهك، المتنمر الإلكتروني قد يكون فرداً أو جماعة، حتى صار التنمر بين الدول والشركات الكبرى، ومهما حاولت الكثير من الدول سنّ التشريعات والقوانين الحافظة لحقوق الناس، إلا أن المسألة أكبر في ظل فوضى السموات الإلكترونية المفتوحة، وتعقد الأمور وتشعبها، فقد يكون موضوع التنمر الرقمي بدايته فردية، ثم يتحول إلى جمعي، وينتقل ليصبح وطنياً ثم إقليمياً، وغير مستبعد أن تشارك فيه أطراف أخرى من دول العالم.
ظاهرة اللاعبة الأولمبية الجزائرية الملاكمة «إيمان خليف»، ربما تصلح لتكون مثالاً لما هو عليه التنمر الرقمي أو «التحرش السيبراني» في وسائط التواصل الاجتماعي، بعد ما بدأ من حلبة الملاكمة ليشتعل ويصبح موضوعاً وطنياً شاركت فيه أطراف إقليمية ودولية، وتضمن رفع قضايا في المحاكم ضد مشاهير مثل «ماسك» وتغريدته، «الرجال لا ينتمون للرياضة النسائية»، والكاتبة «رولينغ» مؤلفة سلسلة «هاري بوتر» التي علقت على صورة لإيمان في حلبة الملاكمة في منازلتها الملاكمة الإيطالية، «إنها رجل تحاول التضييق على امرأة»، مما حدا بالملاكمة أن تظهر في كل المناسبات فيما بعد بملابس نسائية جاذبة، وبمظهر أنثوي ملفت رداً على التنمر الرقمي.
اليوم.. تتعدد أساليب التنمر الرقمي وتتغير وفق كثير من المعطيات الحديثة، من بينها الاستغفال الإلكتروني، وما يفعله «الهكرز» تجاه حسابات الأفراد، والسطو عليها بدافع من التنمر الإلكتروني لمعرفتهم بجهل الطرف الآخر إلكترونياً، وبدافع انتحال شخصيته والإساءة له ولحساباته بما ينشرونه عنه شخصياً أو بما ينشرونه من أشياء لا يرضى هذا الشخص الذي تعرض لمثل هذا التنمر أن تظهر من خلال حسابه، كما يمارس هؤلاء المتنمرون أساليب السرقة والاحتيال والتسبب في إيذاء الشخص نفسياً ومادياً، وهم إذ يفعلون ذلك، إنما يفعلونه تنمراً مثل الاستصغار والاحتقار والفرح بإيذاء الآخر لأنه مخالف، وسرقته تعد مكسباً ومغنماً يتبعها أجر، مثلما يفعل بعض الأشخاص المؤدلجين والمنتمين لجماعات متطرفة في توفير المال والدعم من مصادر مختلفة أو ما يمكن أن نطلق عليه النهب الإلكتروني الحديث أو القرصنة الرقمية الجديدة.
إذا كان التنمر اللفظي في الحياة المعاشة هو الأساس، بالسب أو السخرية أو الافتراء أو بث إشاعة، فإن في التنمر الرقمي تلعب الصورة دوراً أكبر وأخطر، ولعل الكثيرين ربما شاهدوا صورة الفنان عادل إمام المشوهة والملعوب فيها بغية الحط من قيمة هذا الفنان وتاريخه أو استغلال الحالة لصالح الأيدولوجيا «مصير الفنانين غير التائبين، ونهاية طريق الفن» أو بغية الفوز في السباق المحموم نحو تعليق الجرس، ووضع التعليق، وازدياد عدد المتابعين باستعجال نهاية المشهورين، وإرسال دعوات الموت المبكرة أو دفنهم أحياء، فكم قتل المغردون المتنمرون من فنانين وفنانات، وكم طلقوهم، وكم خلقوا لهم من حوادث مميتة أو شائعات كاذبة، وأرهقوهم في حياتهم!